فصل: التفسير المأثور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وهنا يقول: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَآئِقَ} [المؤمنون: 17].
وفي موضع آخر قال: {الله الذي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأرض مِثْلَهُنَّ} [الطلاق: 12].
فهذه سبعة للغاية، وسبعة للمغيَّا له، وهو الإنسان، وسبعة للسماوات والأرض المخلوقة للإنسان.
وطرائق: جمع طريقة أي: مطروقة للملائكة، والشيء المطروق ما له حجم يتسع بالطَّرْق، كما تطرق قطعة من الحديد مثلًا، فانظر إلى السماء واتساعها. وقُلْ: سبحان مَنْ طرقها.
وتلحظ أن الحق سبحانه لم يذكر هنا الأرض، لماذا؟ قالوا: لأن الأرض نقف عليها ثابتين لا نخاف من شيء، إنما الخوف من السماء أنْ تندكّ فوقنا؛ لذلك يقول سبحانه بعدها: {وَمَا كُنَّا عَنِ الخلق غَافِلِينَ} [المؤمنون: 17] فلن نغفل عن السماء من فوقكم، وسوف نُمسكها بأيدينا، كما قال سبحانه: {إِنَّ الله يُمْسِكُ السماوات والأرض أَن تَزُولاَ وَلَئِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ} [فاطر: 41].
ثم يعطينا الحق- تبارك وتعالى- الدليل الحسيّ على هذه الآية، وكيف أن الله تعالى رفع السماء فوقنا بلا عَمَد، ومثال ذلك الطير يُمسكه الله في السماء: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطير فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرحمن} [الملك: 19].
نعلم أن الطير يطير في السماء بحركة الجناحين التي تدفع الهواء وتقاوم الجاذبية فلا يسقط، كالسباح الذي يدفع بذراعيه الماء ليسبح، فإذا ما قبض الطائر جناحيه ومع ذلك يظل مُعلّقًا في السماء لا يسقط فمَنْ يُمسِكه في هذه الحالة؟ هذه صورة تشاهدونها لا يشكّ فيها أحد، فإذا قلت لكم أني أمسك السماء أن تقع على الأرض فصدّقوا وآمنوا، واستدلوا على الغيب بالمشاهد.
وكأن الحق سبحانه في قوله: {وَمَا كُنَّا عَنِ الخلق غَافِلِينَ} [المؤمنون: 17] يقول: اطمئنوا إلى السماء من فوقكم، فقد جعلتُ لها التأمينات اللازمة التي تُؤمِّن معيشتكم تحت سقفها، اطمئنوا لأنها بأيدينا وفي رعايتنا.
لكن، ما المراد بقوله: {عَنِ الخلق} [المؤمنون: 17] أهو الإنسان أم خَلْق السماء؟ المراد: ما كُنَّا غافلين عن خَلْق السماء، فبنيناها على ترتيبات ونظم تحميكم وتضمن سلامتكم.
والغفلة: تَرْك شيء لأنه غاب عن البال، وهذه مسألة لا تكون أبدًا في حق الله-عز وجل- لأنه لا تأخذه سِنَة ولا نوم.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السماء مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأرض}.
يقول تعالى عن الماء: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السماء مَاءً بِقَدَرٍ} [المؤمنون: 18] فهل الماء مَقرُّه السماء؟ لا، الماء مقرُّه الأرض، كما جاء في قول الله تعالى: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذي خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ العالمين وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا في أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِّلسَّآئِلِينَ} [فصلت: 9- 10].
لما يستدعي الخالق-عز وجل- الإنسان إلى هذا الوجود جعل له في الأرض مُقوِّمات استبقاء حياته من الهواء والقوت والماء، والإنسان كما قلنا يستطيع أن يصبر على الطعام، وصبره أقل على الماء، لكن لا صبرَ له على الهواء؛ لذلك شاءت قدرة الله ألاّ يُملّكه لأحد؛ لأنه مُقوِّم الحياة الأول، فالغلاف الجوي والهواء المحيط بالأرض تابع لها وجزء منها داخل تحت قوله: {وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا} [فصلت: 10] بدليل أنهم حينما يخرجون عن نطاق الأرض يمتنع الهواء.
ومن حكمة الخالق-عز وجل- وقدرته أنْ جعل الماء على الأرض مالحًا؛ لأن الملح أساس في صلاح الأشياء التي يطرأ عليها الفساد، فالماء العذب عُرضة للتغيُّر والعطن، وبالملح نصلح ما نخشى تغيُّره فنضعه على الطعام ليحفظه ونستخدمه في دباغة الجلود.. إلخ.
لذلك قال الشاعر:
يَا رِجَالَ الدينِ يا مِلْحَ البَلَدِ ** مَنْ يُصلح الملحَ إذَا المِلْحُ فَسَد

إذن: أصل الماء في الأرض، لكن ينزل من السماء بعد عملية البَخْر التي تُصفيه فينزل عَذْبًا صالحًا للشرب وللري، وقلنا: إن الخالق سبحانه جعل رقعة الماء على الأرض أكبر من رقعة اليابسة حتى تتسع رقعة البَخْر، ويتكون المطر الذي يكفي حاجة أهل الأرض.
ومن رحمة الله بنا أن ينزل الماء من السماء {بِقَدَرٍ} [المؤمنون: 18] يعني: بحساب وعلى قَدْر الحاجة، فلو نزل هكذا مرة واحدة لأصبح طوفانًا مُدمّرًا، كما حدث لقوم نوح ولأهل مأرب. وفي موضع آخر يقول سبحانه: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ} [الحجر: 21].
ثم يقول سبحانه: {فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأرض} [المؤمنون: 18] لأننا نأخذ حاجتنا من ماء المطر، والباقي يتسرب في باطن الأرض، كما قال سبحانه: {فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأرض} [الزمر: 21] ومن عجيب قدرة الله في المياه الجوفية أنها تسير في مسارب مختلفة، بحيث لا يختلط الماء العَذْب بالماء المالح مع ما يتميز به الماء من خاصية الاستطراق، والعاملون في مجال حفر الآبار يجدون من ذلك عجائب، فقد يجدون الماء العَذْب بجوار المالح، بل وفي وسط البحر لأنها ليست مستطرقة، إنما تسير في شعيرات ينفصل بعضها عن بعض.
والمياه الجوفية مخزون طبيعي من الماء نُخرجه عند الحاجة، ويُسعِفنا إذا نَضُبَ الماء العَذْب الموجود على السطح {فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأرض} [المؤمنون: 18] ليكون احتياطيًا لحين الحاجة إليه، فإذا جَفَّ المطر تستطيعون أن تستنبطوه.
ثم يُذكِّرنا الحق سبحانه بقدرته على سَلْب هذه النعمة {وَإِنَّا على ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} [المؤمنون: 18] يعني: سيروا في هذه النعمة سَيْرًا لا يُعرِّضها للزوال، وقال في موضع آخر: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْرًا فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَّعِينٍ} [الملك: 30].
وحين تَعُدّ نِعَم الله التي أمتنّ علينا بها بداية من نعمة الماء: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السماء مَاءً بِقَدَرٍ} [المؤمنون: 18] تجدها أيضًا سبعة.
ويبدو أن لهذا العدد أسرارًا في هذه السورة، فقد ذكر من أوصاف المؤمنين سبعة، ومن مراحل خَلْق الإنسان سبعًا، ومن السماء والأرض سبعة، وهنا يذكر من نعمه علينا سبعة؛ لذلك كان للعلماء وقفات عند هذا العدد بالذات.
وأذكر ونحن في المملكة السعودية وكنت أستاذًا في كلية الشريعة ومعي بعض الأساتذة ورئيس بعثتنا الشيخ زكي غيث- رحمه الله وغفر الله له- ورئيس بعثة المعارف الأستاذ صلاح بك الباقر، وكان دائمًا ما يجلس معنا شيخ علماء المملكة في هذا الوقت السيد إسحق عزوز، وكان يجمعنا كل ليلة الفندق الذي نقيم فيه، وكنا نتدارس بعض قضايا العلم.
وقد أثار الشيخ إبراهيم عطية قضية هذا العدد في القرآن الكريم، وكان يقرأ في تفسير القرطبي فوجد فيه: قال عمر بن الخطاب لابن عباس: يا ابن عباس أتعرف متى ليلة القدر؟ فقال ابن عباس: أغلب الظن أنها ليلة السابع والعشرين، فلما سمعنا هذا الكلام قلنا: هذه سبعة، وهذه سبع وعشرون، فلما اختلفنا اقترح علينا الشيخ محمد أبو على- أطال الله عمره- أن نذهب لنصلي في الحرم بدل أن نصلي في الفندق عملًا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان كلما حزبه أمر يقوم إلى الصلاة، وقلنا: ربما يفتح الله علينا في هذه المسألة.
وبعد أن صلينا جلسنا نناقش هذه المسألة، فإذا برجل لا نعرفه على سمة المجاذيب غير مهتم بنفسه، يجلس بجوارنا ويُنصت لما نقول، ثم شاركنا الكلام وقال: ألم يقُل رسول الله صلى الله عليه وسلم: «التمسوها في العشر الأواخر من رمضان» إذن: فدعكم من العشرين يومًا، واحسبوا في العشر الأواخر، ثم نظرنا فلم نجده، كأن وحدة الزمن التي توجد بها ليلة القدر هي هذه العشر، وكأنها بهذا المعنى ليلة السابع، وهذه أيضًا من أسرار هذا العدد {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76].
أطال الله في عمر مَنْ بقي من هؤلاء، وغفر الله لمن ذهب.
ثم يقول الحق سبحانه: {فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَّكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ}.
الجنة: المكان المليء بالأشجار العالية والمزروعات التي تستر مَنْ يسير فيها، أو تستره عن الخارج، فلا يحتاج في متطلبات حياته إلى غيرها، فهي من الكمال بحيث تكفيه، فلا يخرج عنها. واختار هذه الأنواع {نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَّكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ} [المؤمنون: 19] لما لها من منزلة عند العرب، وقال: {فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ} [المؤمنون: 19] لأنه لم يحصر جميع الأنواع. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17)}.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: {ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق} قال: السموات السبع.
وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {وما كنا عن الخلق غافلين} قال: لو كان الله مغفلًا شيئًا أغفل ما تسفي الرياح من هذه الآثار يعني الخطا.
{وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأرض وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18)}.
أخرج ابن مردويه والخطيب بسند ضعيف عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أنزل الله من الجنة إلى الأرض خمسة أنهار: سيحون، وهو نهر الهند، وجيحون وهو نهر بلخ، ودجلة، والفرات وهما نهرا العراق، ونهر مصر. أنزلها الله من عين واحدة من عيون الجنة، من أسفل درجة من درجاتها على جناحي جبريل فاستودعها الجبال، وأجرها إلى الأرض، وجعلها منافع للناس في أصناف معايشهم. فذلك قوله: {وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض} فإذا كان عند خروج يأجوج ومأجوج أرسل الله جبريل فيرفع من الأرض القرآن والعلم كله، والحجر من ركن البيت، ومقام إبراهيم، وتابوت موسى بما فيه، وهذه الأنهار الخمسة، فيرفع كل ذلك إلى السماء. فذلك قوله: {وإنا على ذهاب به لقادرون} فإذا رفعت هذه الأشياء من الأرض فقد أهلها خير الدنيا والآخرة».
وأخرج ابن أبي الدنيا عن ابن عطاف قال: إن الله أنزل أربعة أنهار: دجلة، والفرات، وسيحون، وجيحون، وهو الماء الذي قال الله: {وأنزلنا من السماء ماء بقدر} الآية.
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي رضي الله عنه {فأنشأنا لكم به جنات} قال: هي البساتين. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
قوله: {على ذَهَابٍ بِهِ}: {على ذَهابٍ} متعلق بـ {لَقادرون} واللامُ كما تقدَّم غيرُ مانعةٍ من ذلك، و{به} متعلق بـ {ذَهاب} وهي مرادِفَةٌ للهمزةِ كهي في {لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ} [البقرة: 20] أي على إذهابه. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17)}.
الحقُّ- سبحانه- لا يستتر عن رؤيته مُدْرَكٌ، ولا تخفى عليه- من مخلوقاته- خافية. وإنما الحُجُبُ على أبصارِ الخَلْقَ وبصائرهم؛ فالعادةُ جاريةٌ بأنه لا يخلق لنا الإدراك لِمَا وراء الحَجُبِ. وكذلك إذا حلَّتْ الغفلةُ القلوبَ استولى عليها الذهول، وانسدَّت بصائرها، وانتفت فهومها.
وفوقنا حُجُبٌ ظاهرة وباطنة؛ ففي الظاهر السمواتُ حجبٌ تحول بيننا وبين المنازل العالية، وعلى القلوب أغشية وأغطية كالمُنْية والشهوة، والإرادات الشاغلة، والغفلات المتراكمة.
أمَّا المريدون فإذا أَظَلَّتْهُم سحائب الفَتْرَةِ، وسَكَنَ هيجانُ إرادتِهم فذلك من الطرائق التي عليهم.
وأما الزاهدون فإذا تحرّكَ بهم عِرْقُ الرغبة انْفَلَّتْ قوة زهدهم، وضَعُفَتْ دعائمُ صَبْرِهم، فَيَتَرَخَّصُون بالجنوحِ إلى بعض التأويلاتِ، فتعودُ رغباتهم قليلًا قليلًا، وتَخْتَلُّ رتبةُ عزوفهم، وتَنْهَدُّ دعائم زهدهم، وبداية ذلك من الطرائق التي خَلَقَ فوقهم.